فصل: فصل في متعلق الجار في قوله تعالى: {من بعد وصية}:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في متعلق الجار في قوله تعالى: {من بعد وصية}:

وقوله فلهن ثلثا ما ترك يعني ما ترك المالك ولم يتقدم له ذكر ولكن لما كان الكلام في معرض البيان لقسم المواريث علم أن الضمير عائد إلى الموروث.
وقوله ترك أي خلف وليس الترك هاهنا بفعل وقد يكون الترك فعلا يثاب عليه صاحبه أو يعاقب كترك الطاعة أو ترك المعصية لأنه لا جزاء إلا على فعل وأما هاهنا فالترك عبارة عما خلف الميت أي يبقى بعد ارتحاله فعبر بالترك مجازا من مجاز التشبيه لشبه حاله بحال المسافر فإنه يترك ما يترك لأهله ويسير.
وإذا ثبت هذا فلا يجوز أن يتعلق حرف الحر من قوله في آخر الآية: {من بعد وصية} بترك وإن كان يليه في الفظ ظاهرا ولذا تعلقه بالاستقرار المضمر في قوله فلهن ثلثا أي استقر لهن الثلثان من بعد وصية أي من بعد إخراج وصية.
ويمتنع أيضا تعلق حرف الجر بترك لوجه آخر نذكره في آخر المسألة إن شاء الله.
فإن قيل ما فائدة هذا النحو في هذا الموضع وما فقهه تعلق بالترك أو لم يتعلق.
قلنا فقه ذلك أن الكفن وجهازالميت ليس للورثة فيه حق لأن حقهم لم يجب لهم إلا بعد موته وبعد إخراج الوصية والدين ولم جعلنا حرف الجر متعلقا بترك لكان المعنى مجملا غير مبين ولكان ما ترك بعد ما أوصى يدخل فيه الكفن وغيره لأن الوصية إنما هي قبل الموت ولو وجب لهم ذلك بأثر الوصية ومن بعد تركه لما ترك أن يوصى فيه كان الكفن لهم ولو كان لهم لم يجبروا على تكفينه ولكانوا بما كفنوا مأجورين على إحسانهم بها وليس الأمر على ذلك بإجماع ويدل على ذلك أيضا قوله يوصي ولم يقل يوصيها وذلك لأن الوصية قول يقوله والوصية أيضا الشيء الذي وصى به وأن المعنى من بعد إخراج ما يوصي به لا من بعد تركه للإيصاء والوصية إذا تكون بمعنى المصدر وهو الإيصاء وتكون المال الموصى فيه تقول قبضت وصية وحمدت وصية أي حمد إيصاؤه وفعله والدين كذلك يكون مصدرا من دنت أدين وذلك قوله تداينتم بدين ويكون المال المأخوذ بالدين تقول قد قضى دينه واللهم اقض عنا الدين وهو هنا الاسم لا المصدر كما أن الوصية كذلك.

.فصل ثان في معلق من:

ومما يمنع أن يتعلق الجار في قوله من بعد وصية بالترك ويوجب أن يتعلق بالفعل المضمر في قوله لهن أي وجب لهن واستقر لهن أن حرف من إذا دخل على الظرف دل على ابتداء غاية ولم يدل على انتهاء تقول نحن في هذا البلد من يوم كذا ومن عام كذا فالمقام إذا في البلد مستمر فإذا جئت بفعل منقض غير مستمر قلت كلمته عام كذا وقبل كذا وبعد كذا بغير من فيكون الظرف محيطا بالفعل من طرفيه فإن جئت بمن لم تزل إلا على الطرف الواحد وهو الابتداء والترك ليس بفعل مستمر ولا هو أيضا فعل فيؤرخ ببعد أو قبل فثبت أن الحرف متعلق بما قلنا.
ومن شواهد ما قلنا في من وتعلقها قوله سبحانه خبرا عن أهل الجنة: {إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين} لما ذكر الفعل المنقضي وهو الإشفاق فلما ذكر الدعاء قال إنا كنا من قبل ندعوه بزيادة من لأن دعاءهم مستمر يقول سبحانه دعواهم فيها سبحانك اللهم وقال ولهم فيها ما يدعون فدعواهم وافتقارهم إلى الله مستمر في الآخرة وبدؤه من قبل.
ثم إن الترك لا يتصور إلا بعد خروج التارك عن داره ووطنه وما دام بين أهله لا يقال ترك لهم كذا فكذا الميت إذا خرج بأكفانه وما يحتاج إليه من جهازه وذلك كله من ماله وحرمته حيا كحرمته ميتا فيما يجب من ستر عورته ونحو ذلك فعند ذلك يقول الناس ما ترك وتقول الملائكة ما قدم.

.فصل في فائدة الصفة في قوله: {وصية يوصي بها}:

وقوله يوصي بها في موضع الصفة للوصية والصفة تقيد الموصوف وفائدة هذا التقييد أن يعلم أن للميت أن يوصي ولو قال من بعد وصية لتوهم أنها وصية غيره أو وصية الله المذكورة في أول الآية.
وقال يوصي بها ولم يقل من بعد وصيته ولا من بعد الوصية التي يوصي بها ليدل على أن الوصية ندب وليست بفرض قد وجب عليه لأنك تقول في الأعمال الواجبة التي قد عرف وجوبها يكون كذا من بعد صلاتنا أو من بعد الصلاة وفيما لم يعرف وجوبه افعل كذا أو كذا من بعد صلاة نصليها أو صوم تصومه أو صدقة تخرجها فيدل لفظ التنكير على عدم الوجوب ويدل لفظ التعريف على الفرض المعروف لاسيما وقد تقدم أن الوصية كانت مفروضة بقوله كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت الآية.

.فصل في سر تقديم الوصية على الدين:

وقوله من بعد وصية يوصي بها أو دين وإخراج الدين لا شك قبل إخراج الوصية وبعد الكفن لأن الغرماء في حياته لم يكن لهم سبيل على كفنه وما يجهز به وبدئ به في العمل قبل الوصية لأن أداءه فرض والفرض مقدم على الندب.
فإن قيل لم بدأ الله بالوصية قبل ذكر الدين.
قلنا في حكم البلاغة أن يقدم ما يجب الاعتناء بشرحه وبيانه وأداء الدين معلوم وأمره بين لأنه حق للغرماء ومنعهم منه ظلم ظاهر فبدأ بما يحتاج إلى بيانه وقد قال سيبويه إنه يقدم في كلامهم ما هم به أهم وببيانه أعني وإن كانا جميعا يهمانهم ويعنيانهم.
ووجه آخر وهو أن الوصية طاعة وخير وبر يفعله الميت والدين إنما هو لمنفعة نفسه وهو مذموم في غالب أحواله وقد تعوذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكفر والدين فبدأ بالأفضل وما يقدم في ترتيب الكلام فقد يكون لقبلية الفضل نحو قوله وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ونحو قوله 6 من النبيين والصديقيين وقد يكون لقبلية الزمان نحو قوله نوحا وإبراهيم وقد يكون لقبلية الترتيب نحو تقديم اليهود على النصارى في الذكر لأنهم كانوا مجاورين للمسلمين في الدار وقد يكون تقديمهم في اللفظ لقبلية الزمان لأن التوراة قبل الإنجيل وموسى قبل عيسى وقد يكون تقديم الصلاة قبل الزكاة من قبلية الرتبة لأنها حق البدن والزكاة حق المال والبدن في الرتبة قبل المال.
ومن وجوه القبليات أيضا السبب والمسبب كالمرض والموت في حكم البلاغة كما روي أن أعرابيا سمع قارئا يقرأ والله حكيم عزيز والأعرابي لا يحفظ القرآن فقال الأعرابي ما أراها أنزلت كما تقول فقال القارئ والله عزيز حكيم فقال الأعرابي نعم عز فلما عز حكم.
فاجعل هذه القبليات أصلا في معرفة الحكمة والإعجاز في كتاب الله فإنه لا تقدم فيه صفة على أخرى ولا شيء على شيء إلا بقبلية من هذه القبليات فترتب الألفاظ في اللسان على حسب ترتيب المعاني في الجنان فتدبره والله المستعان.

.فصل في نصيب الذكر إذا انفرد:

وقوله وإن كانت واحدة فلها النصف فيه نص ودليل أما النص فثبوت النصف للبنت الواحدة مع عدم الأخ وأما الدليل فلأن الذكر إذا انفرد ورث المال كله لأنه قال للذكر مثل حظ الأنثيين وللأنثى النصف إذا كانت وحدها فللذكر النصفان وهو الكل إذا كان وحده.

.فصل في حكمة نصيب الأبوين مع الولد:

وقوله ولأبويه ذكرهما بلفظ الأبوة دون لفظ الولادة كما قال وبالوالدين إحسانا لأن هذه الآية معرضها ومقصودها غير ذلك ولفظ الوالدين أوفى وأجلب للرحمة وأشكل بالوضع الذي يراد به الرفق بهما لأن لفظ الولادة يشعر بحال المولود وبرحمتهما له إذا ذاك ألا تراه يقول في آية الوالدين وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ولفظ الأبوين أوقر وإن كان الآخر أرق ألا تراهم لا يقولون في الكنية إلا يا أبا فلان ولا يقولون يا والد فلان فكان لفظ الأبوين هاهنا أشكل بهذا المقام الذي هو إعلام بحظ هذين اللذين ينسب إليهما الميت والأبوة في مقابلة البنوة والوالد في مقابلة الولد مع أن لفظ الأبوة هنا فقها وهو سريان الميراث من الأب إلى أبيه إذا عدم الأب لأن لفظ الأبوة يتناوله وقد قرنت معه هاهنا الأم بلفظ الأبوة ولا يقال لها أب ولا أبة إذا انفردت ولا يقال لها إلا والدة فلو ذكر بلفظ الولادة لسرى أيضا حق الميراث منها إلى والدها إذا عدمت هي كما سرى ذلك في الأب إلى الجد إذا عدم الأب وهذا دقيق فافهمه.
وقد تقدم اللفظ بين حالتي اللفظين وما يشاكله من مقامات الكلام كل واحد من الاسمين وتنزيل الألفاظ في مواطنها وهو معنى البلاغة وهي الفصاحة ومن هنا يعلم الإعجاز في كلام الله العزيز والحمد لله.
وقوله لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد سوى الله بين الأبوين في هذه المسألة إذا كان للميت ولد ولم يفضلهما على الولد لأنه يقال للأب كما كنت تحب لابنك من الغنى والخير أكثر مما تحب لأبيك فكذلك حال ابنك مع ولده كحالك مع ولدك لأن الوالد أحب الناس غنى لابنه وأعزهم فقرا عليه كم قال الصديق لابنته عائشة رضي الله عنهما عند موته وكان أبوه حيا فقال لها ما من أحد أحب إلي غنى منك ولا أعز فقرا علي بعدي منك ولم يستثن أباه ولا غيره.
ثم إن الولد يؤملون من النكاح والحياة وغيره بحداثة سنهم ما لا يؤمله الأبوان ثم قال الأب إن فريضتك لا تنقص بكثرة الورثة وان كان الولد عشرين وفريضة ولد ابنك الهالك قد تنقص بكثرة الأولاد حتى تكون أقل من العشر فيرضى الأبوان بقسم الله تعالى لهما ويريان العدل من الله بينا فيما قسم فإنه لم يحجب بالبنين فيعطي الأب نصفا ولا ثلثا ولا حجب بالأب فأعطاه عشرا ولا تسعا بل جعل له أوسط الفرائض وهو السدس ولا يزاد بقلة الولد ولا بنقص بكثرتهم والحمد لله.

.فصل في حكمة التسوية بين الأبوين مع وجود الولد:

وسوى الله بين الأب والأم في هذا الموضع لأن الأب وإن كان يستوجب التفضيل بما كان ينفقه على الابن وبنصرته له وانتهاضه بالذب عنه صغيرا فالأم أيضا حملته كرها ووضعته كرها وكان بطنها له وعاء وثديها له سقاء وحجرها له قباء فتكافأت الحجتان من الأبوين فسوى الله بينهما فأعطاهما سدسا وذلك الثلث أبقى للبنتين الثلثين لما تقدم من الحكمة الموجبة لتفضيل الولد في الميراث على الأبوين.

.فصل في بيان حالات الأم مع الأب:

وللأم ثلاث حالات حالة تسوى فيها مع الأب وهي هذه وحالة يفضل الأب عليها فيكون له مثلا حظها وذلك مع عدم الولد لأنه حينئذ صاحب فرض وعاصب والمرأة لا تكون عاصبة فيزيد عليها حينئذ بالتعصيب فيكون لها الثلث وله الثلثان والحالة الثالثة تفضل فيها الأم على الأب وذلك ما دام حيا فإنه يؤمر بالبر بها والصلة لها بأكثر مما يلزمه الأب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاوية بن حيدة القشيري وقد قال له من أبر يا رسول الله قال أمك قال ثم من قال أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك ففضل الأم على الأب في البر.
وقيل لشهاب بن خراش ما جعلت لأبيك من دعائك قال الثلثين ولأمي الثلث قيل له أليس كما يقال للأم ثلثا البر قال بلى ولكن أبي كان صابح شرطة لأنه كان على شرطة ابن هبيرة.
وإنما استوجبت هذا ما دام الولد حيا من وجوه أحدها أنها أضعف والأضعف أحق بأن يرحم والثاني أنها أرق قلبا وأشد رحمة للابن والثالث أنها تحمل من مؤنة الحمل والنفاس والتربية ما لا يحمله الأب والرابع أن الأم تمت بسببين والأب بسبب واحد وهو الأبوة.
وشرح هذا أن آدم يمت علينا بالأبوة وحواء تمت علينا بالأمومة والأخوة لأنها خلقت من ضلع آدم فخرجت منه فصارت أم البشر وأختا لهم.
والخامس أن الرحم التي هي شجنة من الرحمن اشتق لها من اسمه وقال من وصلها وصلته ومن قطعها قطعته هي في الأم حيث يتصور الولد قال الله سبحانه: {هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء} ثم قال: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام}.
فقرابة الأب تسمى رحما مجازا لأن الأب سبب وجود الابن في الرحم والشيء سمي بالشيء إذا كان سببا له.
والرحم التي عاذت بالرحمن حين فرغ من الخلق وقالت هذا مقام العائذ بك من القطيعة كانت لها حينئذ حجنه كحجنة المغزل كما جاء في الحديث وكأنها إشارة إلى الحنو والعطف وذلك في معنى الرحمة ثم في تخصيص الله إياها بأن وضعها في الأم بعد أن اشتق لها اسما من الرحمة سر لطيف وحكمة بالغة وذلك أن الولد قبل أن يقع في الرحم نطفة جماد ولا يتصور رحمة للجمادات ونعني بالجماد ما لا روح له وإنما تقع الرحمة على من فيه الروح وأما النطفة والدم فلو وقع في الأرض وطئ بالرجل ما وجد في قلب أحد رحمة له فإذا صور ونفخ فيه الروح توجهت إليه الرحمة من الأبوين وغيرهما وذلك لا يكون إلا في بطن الأم فوضعت الرحم المشتقة من اسم الرحمن في الأم لهذه الحكمة دون الأب وقيل للقرابة من هذا الوجه ذوو رحم ولم يقل ذلك لقرابة الأب إلا مجازا كما تقدم وإن سمي الأعمام وبنو الأعمام ذوي رحم فجائز على المجاز وتسمية الشيء بما يؤل إليه ويكون سببا له والله المستعان.